بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*...الخليفة المأمون و الإمام أحمد بن حنبل...*
يعتبرُ المؤرخون أيام الخليفة العباسي المأمون صفحاتٍ مُشرقةً في كتاب الخلافة العباسية، لأنها كانتْ ملآى بالثقافة والمعرفة... والعلم والأدب، لم تُعكِّر صفوَها أيةُ حادثة سلبية... ماعدا حادثةٌ واحدة... هزَّتِ العالم الإسلامي في ذلك الوقت هزّاً عنيفاً، وكانت إحدى محنه الكبرى وقضاياهُ العظمى التي تعرَّض لها خلال التاريخ الإسلامي، وقد تجلَّتْ تلك المحنةُ في الموضوع الذي طرحه المعُتزلة آنذاك.. والذي يُنادي بخلق القرآن.
والمُعتزلةُ -كما هو معلوم- فرقةٌ إسلامية، نادتْ بفلسفة دينية تعتمد على مايُقرُّهُ العقلُ المجرد فقط بالنسبة إلى الأمور كافة... بما في ذلك أمور العقيدة، وقد طال نقاشُها في مجال البحوث الدينية موضوعاتٍ شتّى.. وتشعَّبَ فيها، وهو ما أدَّى بتلك الفرقة إلى بحث أمور لم يبحثها علماءُ وفُقهاء الفرق الأخرى.. ولا تَعرَّضوا لها، فنتج عن ذلك البحث إثارةُ موضوعاتٍ أدَّت إلى مشكلات دينية- علمية كثيرة.. مُشابكة ومُعقَّدة، لعلَّ أشدَّها خطراً مقولتُهم بخلق القرآن.. التي راحوا ينادون بها... ويُهلِّلون لها.. ويُناقشون الناس فيها.
وقد بدأتْ تلك الفرقةِ بإطلاق مقولتها المذكورة أيام الخليفة هارون الرشيد، حين بدأ الجدلُ حولها، وعاش مجتمعُ بغداد، بين أخذٍ وردٍّ... وقيلٍ وقال.. وتبنِّ وتركٍ، ولكنْ دونما إلزامٍ من الخليفة بالقول بما أَقرَّتهُ المعتزلة، ولكنْ حين تولَّى الخلافة ابنُهُ المأمونُ من بعده، وأخذ بما أقرَّتهُ تلك الفرقة.. راح يُلزِمُ طبقات المجتمع كافة الأخذ بقولها.. وتبنَّى آراءها في هذا المجال، بل ويُجبرهم على ذلك، بناء على نصيحةٍ قدَّمها له بعضُ علماء المعتزلة.. الذين رأوا في انضمامه إليهم نصراً كبيراً.. وربحاً ثميناً.. وفرصةً ذهبية لاتُعوَّض.. يجب الاستفادة منها لإجبار الناس على الأخذ برأيهم.. والقول بقولهم، فأشاروا على الخليفة أنْ يبدأ حملة الإجبار بخاصة العلماء من مّحدِّثين ومُفكرين وفُقهاء.. لينتهيَ بعامة الناس من العاديِّين والمحدودين والبُسطاء.
ومن المؤسف حقّاً أنْ يُصدِرَ الخليفةُ المأمون -الذي يُمثِّلُ النجم الأكثر إضاءةً ولمعاناً في نجوم الخلافة العباسية... علماً وأدباً وفكراً -أوامره المشدِّدة إلى قادة الشُّرطة لإجبار الناس على الأخذ بقول المعتزلة، وإلا فإنهم يُطردون من وظائفهم ويُضربون بالسِّياط إلى أنْ يأخذوا بما أقرَّته تلك الفرقة من قول في هذا المجال.
ويروي الثِّقات من الرُّواة أنَّ المأمون أرسل إلى سبعةٍ من أكابر العلماء والمحدِّثين في بغداد ممن أنكروا قول المعتزلة ليحضروا مجلسه في قصر الخلافة حتى يُناظرهم بنفسه، فلما حضروا أخذتهم الهيبة والرهبة، فقالوا بقول الخليفة.
وبدأ الناس في أرجاء العالم الإسلامي كافة يقولون بقول المعتزلة بعد أنْ راح المأمون "يجلد ويُعذِّب ويقهر ويسجن ويقطع رزق كل شخصٍ لايقول بقولهم"، ولكنَّ أربعة من كبار العلماء والفقهاء لم يقولوا بقول المُعتزلة.. الذي كان يُجسِّده الخليفةُ نفسه، فكتب إليهم..
واستدعاهم إلى مجلسه في قصر الخلافة، غير أنَّ اثنين منهم طاعنَيْن في السِّن خشيا الإهانة والتعذيب.. فقالا بقول المأمون والمعتزلة، أما الاثنان الآخران فقد بقيا على رأيهما المخالف لرأي المعتزلة، بل وأصرَّا عليه مهما كانت النتائج، واتَّبعا تعاليم دينهما السمحاء.. وتحدُّيا من ثم الخليفة والمُعتزلة... ولم يخشيا أحداً في عقيدتهما الغراء.. أوَّلُهما الإمام الجليل أحمد بن حنبل... وثانيهما محمد بن نوح أحدُ مشاهير علماء ذلك الزمان وفُقهائه وقُضاته.
ولما تمكَّنتِ الشُّرطةُ من إلقاء القبض على الإمام ابن حنبل أُحضِر مُقيَّداً إلى قصر الخليفة المأمون... وجرى بينهما الحوار التالي:
-المأمون: وقرابتي من رسول الله (ص) لأضربنَّكَ يابن حنبل بالسِّياط حتى تقول مثلما أقولُ في القرآن.
-ابن حنبل: وماتشاؤون إلا أنْ يشاء الله.
المأمون: خُذه من مجلسي يا جلاَّد... وابدأ ضربه بالسِّياط... إلى أنْ أُعطيكَ إشارة بالتوقف... وأشار إلى جلاد يقف بالقرب منه.
-ابن حنبل: بعد أنْ ضُرب السَّوْطَ الأول يقول: بسم الله، وبعد الثاني: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبعد الثالث: القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وبعد الرابع: لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. إلى أنْ ضربه الجلاد تسعةً وعشرينَ سَوْطاً.. مع أنه واحدٌ من فقهاء الأمة الكبار... وأحدُ أئمَّة المُسلمين الأربعة الذين عمَّتْ شُهرة مذاهبهم وأصحابها الأمصار الإسلامية قاطبة.. ومع أنَّ خصَمهُ الآمرَ بالضرب أوسعُ خلفاء بني العباس معرفةً وعلماً... وأكثرهم اطلاعاً وتنوّراً.. وأشّدُهم تقريباً للعلماء والفقهاء والمُحدِّثين والأدباء إكراماً.
والواقعُ يشير إلى أنَّ موقف الإمام أحمد بن حنبل كان نابعاً من عقيدةٍ راسخة.. وإيمانٍ قوي متين لا يتزعزع مهما عصفتْ بصاحبه الأحداث والشَّدائد الجسام، فقد كان على يقين تام أنه إذا وافقَ الخليفةَ المأمون على هواه.. وأخذ به، فإنَّ المسلمين سيخضعون لذلك الهوى.. ولن يرتفع بعدها لسانٌ واحدٌ في العالم الإسلامي -على امتداد رقعته- يُنكرُ قول الخليفة.. ومن ورائه المعتزلة، ذلك القولُ الذي يُخالف آراء الجمهرة الغالبة من خاصة العلماء والفقهاء.. وعامة الناس والجمهور.
وفي اليوم الثاني أمر الخليفة المأمون عدداً من مفكري المعتزلة وعلمائهم ، وعلى رأسهم إسحاق بنُ إبراهيم الذي يُمثِّلُ واحداً من أشهر أئمتَّهم المشهود لهم بسعة العلم والاطلاع أنْ يُناظروا أحمد بن حنبل على ملأ من الناس، فجرتْ بين العالِمَيْن مُناظرةٌ مُطوَّلة خلَّدتها كتبُ علم الكلام.. أُثبِتُ هنا في هذه العجالة بعضَ مادار فيها من نقاش بين الرجلين.. وبعض ماورد من حوارٍ جعل كليهما لايتزحزح عن موقفه قيد أُنمله:
-اسحق بن إبراهيم: ماتقول يا أحمد في القرآن الكريم..؟
-أحمد ابن حنبل: هو كلام الله.
-اسحاق: أمخلوقٌ هو...؟.
-ابن حنبل: هو كلام الله.. ولا أَزيدُ عليها.
-اسحاق: مامعنى أنه تعالى سميعٌ بصير.
-ابن حنبل: هو كما وصف نفسه.. لأنه ليس كمثله شيء.
-اسحاق: فما معناه يا أحمد..؟
-ابن حنبل: قلتُ لكَ يا اسحاق... هو كما وصف نفسه.. ولا أَزيدُ عليها أيضاً.
ولما يئس اسحاق من استمرار المُناظرة، أرسل إلى المأمون يُعلمه بما جرى خلالها بعد أن طلب من الجند والحُرَّاس إعادة أحمد بن حنبل إلى السجن ثانيةً.. وهو مُكبَّلٌ بالحديد.
وجاءَهُ الجواب من المأمون بأنْ يُضرَب ابن حنبل من جديد.. وأنْ يبقى مُكبَّلاً بأغلال الحديد.. وأنْ يُنقَلَ إليه في طرسوس وهو على هذه الحال، وحين وصل إلى قصر الخلافة تلقَّاه أحد الخدم الذين يرفضون سرّاً الأخذ بقول الخليفة والمعتزلة، ولما رأى ابن حنبل على تلك الحال من الذُّلِّ والمهانة.. بكى.. ثم مسح دموعهُ... واقترب من ابن حنبل... وراح يهمسُ في أذنه قائلاً على عجل:
لقد عزَّ عليَّ والله يابن حنبل مانزل بكَ من بلاءٍ وهوان، فقد أحضر الخليفةُ سيفاً لم يُحضر مثله من قبل.. وهيَّأ نطعاً لم يُهيِّءْ مثله من قبل أيضاً.. فاسألِ الله الصبر.. فإنه سبحانه وتعالى مع الصابرين، ولابدَّ أن نَرى بعد هذا الظلام فجرا.. وإنَّ مع العُسْر يُسرا.
فابتسم أحمد بن حنبل ابتسامةَ إشفاقٍ وإيمانٍ خالص وهو يقول لذلك الخادم: اسمعْ يا بُنيّ ..لن أقول إلا كما قال أبونا إبراهيم الخليل عليه السلام عندما أُلقيَ في النار: (إنَّ علم الله بحالي .. يُغنيه عن سؤالي)، فامسحْ دمعك جيداً.. ولا تدعْ أحداً يراك.. فوالله الذي لا إله إلا هو إنكَ على حق.. وإنَّ الخليفة ومن ورائه المعتزلة على خطأ.
وطلب الخليفةُ المأمون إدخال الإمام أحمد بن حنبل عليه، وكان الوقتُ ليلاً بعد صلاة العشاء، فلما أدخله الحرسُ عليه... نظر الخليفةُ إلى ابن حنبل وقال:
-وقرابتي من رسول الله.. لارفعتُ السيفَ عنكَ يا أحمد حتى تقول إنَّ القرآن مخلوق.
-فجثا أحمد على رُكْبَتيْه.. ثم نظر إلى السماء بعينيه... ودعا بما شاء اللهُ له أن يدعو في مثل تلك اللحظات الرهيبة... وبعد ذلك عاود نظره إلى الأرض دون أنْ يلتفتَ إلى الخليفة.. أو إلى أحد من رؤساء المعتزلة الذين كانوا يحيطون به إحاطة السِّوار بالمعصم. فما كان من المأمون -وقد أخذته هيبةُ هذا الإمام الجليل - إلا أن أمر بإرجاء المُناظرة والجلسة.. والتحدي والحديث إلى ليلة الغد.. وإعادة ابن حنبل إلى سجنه.
ولم يمض النصفُ الأول من الليل كما أجمع المُحدِّثون الثِّقاة كافة.. وكما أجمعتِ الروايات الصحيحة كافة أيضاً.. إلا وسُمعتْ صيحاتٌ مُتتالية اختلط فيها عويلُ النساء بصخب أصوات الرجال... أعقبتْها ضجةٌ وجلبةٌ غير عادية في قصر الخليفة المأمون.
وماهي إلى لحظاتٌ.. حتى أقبل الخادم مهرولاً باتجاه الغرفة التي سُجن فيها الإمام ابن حنبل بانتظار مناظرة ليلة الغد، وراح يوقظه من نومه.. وهو يقول:
"صدقتَ والله يا أحمد.. القرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، لقد مات أمير المؤمنين يابن حنبل.. لقد مات قبل أنْ ينال منك".
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
*...الخليفة المأمون و الإمام أحمد بن حنبل...*
يعتبرُ المؤرخون أيام الخليفة العباسي المأمون صفحاتٍ مُشرقةً في كتاب الخلافة العباسية، لأنها كانتْ ملآى بالثقافة والمعرفة... والعلم والأدب، لم تُعكِّر صفوَها أيةُ حادثة سلبية... ماعدا حادثةٌ واحدة... هزَّتِ العالم الإسلامي في ذلك الوقت هزّاً عنيفاً، وكانت إحدى محنه الكبرى وقضاياهُ العظمى التي تعرَّض لها خلال التاريخ الإسلامي، وقد تجلَّتْ تلك المحنةُ في الموضوع الذي طرحه المعُتزلة آنذاك.. والذي يُنادي بخلق القرآن.
والمُعتزلةُ -كما هو معلوم- فرقةٌ إسلامية، نادتْ بفلسفة دينية تعتمد على مايُقرُّهُ العقلُ المجرد فقط بالنسبة إلى الأمور كافة... بما في ذلك أمور العقيدة، وقد طال نقاشُها في مجال البحوث الدينية موضوعاتٍ شتّى.. وتشعَّبَ فيها، وهو ما أدَّى بتلك الفرقة إلى بحث أمور لم يبحثها علماءُ وفُقهاء الفرق الأخرى.. ولا تَعرَّضوا لها، فنتج عن ذلك البحث إثارةُ موضوعاتٍ أدَّت إلى مشكلات دينية- علمية كثيرة.. مُشابكة ومُعقَّدة، لعلَّ أشدَّها خطراً مقولتُهم بخلق القرآن.. التي راحوا ينادون بها... ويُهلِّلون لها.. ويُناقشون الناس فيها.
وقد بدأتْ تلك الفرقةِ بإطلاق مقولتها المذكورة أيام الخليفة هارون الرشيد، حين بدأ الجدلُ حولها، وعاش مجتمعُ بغداد، بين أخذٍ وردٍّ... وقيلٍ وقال.. وتبنِّ وتركٍ، ولكنْ دونما إلزامٍ من الخليفة بالقول بما أَقرَّتهُ المعتزلة، ولكنْ حين تولَّى الخلافة ابنُهُ المأمونُ من بعده، وأخذ بما أقرَّتهُ تلك الفرقة.. راح يُلزِمُ طبقات المجتمع كافة الأخذ بقولها.. وتبنَّى آراءها في هذا المجال، بل ويُجبرهم على ذلك، بناء على نصيحةٍ قدَّمها له بعضُ علماء المعتزلة.. الذين رأوا في انضمامه إليهم نصراً كبيراً.. وربحاً ثميناً.. وفرصةً ذهبية لاتُعوَّض.. يجب الاستفادة منها لإجبار الناس على الأخذ برأيهم.. والقول بقولهم، فأشاروا على الخليفة أنْ يبدأ حملة الإجبار بخاصة العلماء من مّحدِّثين ومُفكرين وفُقهاء.. لينتهيَ بعامة الناس من العاديِّين والمحدودين والبُسطاء.
ومن المؤسف حقّاً أنْ يُصدِرَ الخليفةُ المأمون -الذي يُمثِّلُ النجم الأكثر إضاءةً ولمعاناً في نجوم الخلافة العباسية... علماً وأدباً وفكراً -أوامره المشدِّدة إلى قادة الشُّرطة لإجبار الناس على الأخذ بقول المعتزلة، وإلا فإنهم يُطردون من وظائفهم ويُضربون بالسِّياط إلى أنْ يأخذوا بما أقرَّته تلك الفرقة من قول في هذا المجال.
ويروي الثِّقات من الرُّواة أنَّ المأمون أرسل إلى سبعةٍ من أكابر العلماء والمحدِّثين في بغداد ممن أنكروا قول المعتزلة ليحضروا مجلسه في قصر الخلافة حتى يُناظرهم بنفسه، فلما حضروا أخذتهم الهيبة والرهبة، فقالوا بقول الخليفة.
وبدأ الناس في أرجاء العالم الإسلامي كافة يقولون بقول المعتزلة بعد أنْ راح المأمون "يجلد ويُعذِّب ويقهر ويسجن ويقطع رزق كل شخصٍ لايقول بقولهم"، ولكنَّ أربعة من كبار العلماء والفقهاء لم يقولوا بقول المُعتزلة.. الذي كان يُجسِّده الخليفةُ نفسه، فكتب إليهم..
واستدعاهم إلى مجلسه في قصر الخلافة، غير أنَّ اثنين منهم طاعنَيْن في السِّن خشيا الإهانة والتعذيب.. فقالا بقول المأمون والمعتزلة، أما الاثنان الآخران فقد بقيا على رأيهما المخالف لرأي المعتزلة، بل وأصرَّا عليه مهما كانت النتائج، واتَّبعا تعاليم دينهما السمحاء.. وتحدُّيا من ثم الخليفة والمُعتزلة... ولم يخشيا أحداً في عقيدتهما الغراء.. أوَّلُهما الإمام الجليل أحمد بن حنبل... وثانيهما محمد بن نوح أحدُ مشاهير علماء ذلك الزمان وفُقهائه وقُضاته.
ولما تمكَّنتِ الشُّرطةُ من إلقاء القبض على الإمام ابن حنبل أُحضِر مُقيَّداً إلى قصر الخليفة المأمون... وجرى بينهما الحوار التالي:
-المأمون: وقرابتي من رسول الله (ص) لأضربنَّكَ يابن حنبل بالسِّياط حتى تقول مثلما أقولُ في القرآن.
-ابن حنبل: وماتشاؤون إلا أنْ يشاء الله.
المأمون: خُذه من مجلسي يا جلاَّد... وابدأ ضربه بالسِّياط... إلى أنْ أُعطيكَ إشارة بالتوقف... وأشار إلى جلاد يقف بالقرب منه.
-ابن حنبل: بعد أنْ ضُرب السَّوْطَ الأول يقول: بسم الله، وبعد الثاني: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبعد الثالث: القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وبعد الرابع: لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. إلى أنْ ضربه الجلاد تسعةً وعشرينَ سَوْطاً.. مع أنه واحدٌ من فقهاء الأمة الكبار... وأحدُ أئمَّة المُسلمين الأربعة الذين عمَّتْ شُهرة مذاهبهم وأصحابها الأمصار الإسلامية قاطبة.. ومع أنَّ خصَمهُ الآمرَ بالضرب أوسعُ خلفاء بني العباس معرفةً وعلماً... وأكثرهم اطلاعاً وتنوّراً.. وأشّدُهم تقريباً للعلماء والفقهاء والمُحدِّثين والأدباء إكراماً.
والواقعُ يشير إلى أنَّ موقف الإمام أحمد بن حنبل كان نابعاً من عقيدةٍ راسخة.. وإيمانٍ قوي متين لا يتزعزع مهما عصفتْ بصاحبه الأحداث والشَّدائد الجسام، فقد كان على يقين تام أنه إذا وافقَ الخليفةَ المأمون على هواه.. وأخذ به، فإنَّ المسلمين سيخضعون لذلك الهوى.. ولن يرتفع بعدها لسانٌ واحدٌ في العالم الإسلامي -على امتداد رقعته- يُنكرُ قول الخليفة.. ومن ورائه المعتزلة، ذلك القولُ الذي يُخالف آراء الجمهرة الغالبة من خاصة العلماء والفقهاء.. وعامة الناس والجمهور.
وفي اليوم الثاني أمر الخليفة المأمون عدداً من مفكري المعتزلة وعلمائهم ، وعلى رأسهم إسحاق بنُ إبراهيم الذي يُمثِّلُ واحداً من أشهر أئمتَّهم المشهود لهم بسعة العلم والاطلاع أنْ يُناظروا أحمد بن حنبل على ملأ من الناس، فجرتْ بين العالِمَيْن مُناظرةٌ مُطوَّلة خلَّدتها كتبُ علم الكلام.. أُثبِتُ هنا في هذه العجالة بعضَ مادار فيها من نقاش بين الرجلين.. وبعض ماورد من حوارٍ جعل كليهما لايتزحزح عن موقفه قيد أُنمله:
-اسحق بن إبراهيم: ماتقول يا أحمد في القرآن الكريم..؟
-أحمد ابن حنبل: هو كلام الله.
-اسحاق: أمخلوقٌ هو...؟.
-ابن حنبل: هو كلام الله.. ولا أَزيدُ عليها.
-اسحاق: مامعنى أنه تعالى سميعٌ بصير.
-ابن حنبل: هو كما وصف نفسه.. لأنه ليس كمثله شيء.
-اسحاق: فما معناه يا أحمد..؟
-ابن حنبل: قلتُ لكَ يا اسحاق... هو كما وصف نفسه.. ولا أَزيدُ عليها أيضاً.
ولما يئس اسحاق من استمرار المُناظرة، أرسل إلى المأمون يُعلمه بما جرى خلالها بعد أن طلب من الجند والحُرَّاس إعادة أحمد بن حنبل إلى السجن ثانيةً.. وهو مُكبَّلٌ بالحديد.
وجاءَهُ الجواب من المأمون بأنْ يُضرَب ابن حنبل من جديد.. وأنْ يبقى مُكبَّلاً بأغلال الحديد.. وأنْ يُنقَلَ إليه في طرسوس وهو على هذه الحال، وحين وصل إلى قصر الخلافة تلقَّاه أحد الخدم الذين يرفضون سرّاً الأخذ بقول الخليفة والمعتزلة، ولما رأى ابن حنبل على تلك الحال من الذُّلِّ والمهانة.. بكى.. ثم مسح دموعهُ... واقترب من ابن حنبل... وراح يهمسُ في أذنه قائلاً على عجل:
لقد عزَّ عليَّ والله يابن حنبل مانزل بكَ من بلاءٍ وهوان، فقد أحضر الخليفةُ سيفاً لم يُحضر مثله من قبل.. وهيَّأ نطعاً لم يُهيِّءْ مثله من قبل أيضاً.. فاسألِ الله الصبر.. فإنه سبحانه وتعالى مع الصابرين، ولابدَّ أن نَرى بعد هذا الظلام فجرا.. وإنَّ مع العُسْر يُسرا.
فابتسم أحمد بن حنبل ابتسامةَ إشفاقٍ وإيمانٍ خالص وهو يقول لذلك الخادم: اسمعْ يا بُنيّ ..لن أقول إلا كما قال أبونا إبراهيم الخليل عليه السلام عندما أُلقيَ في النار: (إنَّ علم الله بحالي .. يُغنيه عن سؤالي)، فامسحْ دمعك جيداً.. ولا تدعْ أحداً يراك.. فوالله الذي لا إله إلا هو إنكَ على حق.. وإنَّ الخليفة ومن ورائه المعتزلة على خطأ.
وطلب الخليفةُ المأمون إدخال الإمام أحمد بن حنبل عليه، وكان الوقتُ ليلاً بعد صلاة العشاء، فلما أدخله الحرسُ عليه... نظر الخليفةُ إلى ابن حنبل وقال:
-وقرابتي من رسول الله.. لارفعتُ السيفَ عنكَ يا أحمد حتى تقول إنَّ القرآن مخلوق.
-فجثا أحمد على رُكْبَتيْه.. ثم نظر إلى السماء بعينيه... ودعا بما شاء اللهُ له أن يدعو في مثل تلك اللحظات الرهيبة... وبعد ذلك عاود نظره إلى الأرض دون أنْ يلتفتَ إلى الخليفة.. أو إلى أحد من رؤساء المعتزلة الذين كانوا يحيطون به إحاطة السِّوار بالمعصم. فما كان من المأمون -وقد أخذته هيبةُ هذا الإمام الجليل - إلا أن أمر بإرجاء المُناظرة والجلسة.. والتحدي والحديث إلى ليلة الغد.. وإعادة ابن حنبل إلى سجنه.
ولم يمض النصفُ الأول من الليل كما أجمع المُحدِّثون الثِّقاة كافة.. وكما أجمعتِ الروايات الصحيحة كافة أيضاً.. إلا وسُمعتْ صيحاتٌ مُتتالية اختلط فيها عويلُ النساء بصخب أصوات الرجال... أعقبتْها ضجةٌ وجلبةٌ غير عادية في قصر الخليفة المأمون.
وماهي إلى لحظاتٌ.. حتى أقبل الخادم مهرولاً باتجاه الغرفة التي سُجن فيها الإمام ابن حنبل بانتظار مناظرة ليلة الغد، وراح يوقظه من نومه.. وهو يقول:
"صدقتَ والله يا أحمد.. القرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، لقد مات أمير المؤمنين يابن حنبل.. لقد مات قبل أنْ ينال منك".
وحين فتح أقرباءُ الخليفة المأمون وأهلهُ وصيَّتهُ بعد دفنه.. وجدوا فيها توصيةً لأخيه "المعتصم" بأنْ يُتابع السير على نهجه فيما يتعلَّق بإجبار الناس على الأخذ بقول المعتزلة، فما كان من الخليفة الجديد، إلاَّ أنْ أحضر الإمام ابنَ حنبل إلى قصر الخلافة، وطلب من ابن أبي دؤاد كبير علماء المعتزلة الذي كان يجلس بجانبه مع لفيفٍ من القُضاة والعلماء أنْ يُناظروا ابن حنبل من جديد.
وجرتْ مناظرةٌ حامية الوطيس.. طويلة الزمن.. امتدَّت حتى الساعات الأولى من الفجر.. افتتحها الخليفة المعتصم بقوله:
-الخليفة المعتصم: ماذا تُحبُّ أن تقول يا أحمد في بدء المناظرة.. وأنتَ على ماأنتَ عليه من علمٍ ودراية وفقه...؟
-الإمام أحمد: أُحبُّ أن أقول الآتي يا أمير المؤمنين:
أنا أشهد أنْ لا إله إلا الله.. وأنَّ محمداً عبده ونبيُّهُ ورسوله، وأنه ورد في الحديث الصحيح أنّ جبريلَ عليه السلام أتى الرسول "محمد بنَ عبد الله" (ص) على شكل أعرابي أشعث أغبر ليعلِّم المسلمين أمر دينهم كما ذكر الرسول لصحابته بعدما غادرهم جبريل، وسأل الرسول عن الإسلام والإيمان والإحسان فكان جوابهُ عليه الصلاة والسلام ملخصَّاً بالآتي:
*- الإسلام: هو النطق بالشهادتين (شهادة أنْ لا إله إلا الله... وأنَّ محمداً رسول الله)، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
*- الإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى. (طبعاً نحنُ نَنسبُ الشر إلى أنفسنا أدباً مع الله)
*- الإحسان: هو أنْ تعبد الله كأنك تراه.. فإنْ لم تكن تراهُ.. فإنه يراك.
هذا هو الإسلام والإيمان والإحسان يا أمير المؤمنين، وليس في واحدٍ منها القولُ بخلق القرآن كما ترى وتسمع... أَعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنَّة رسوله أقول به.
-ابن أبي دؤاد أبرز علماء المعتزلة: جاء في الآية الثانية من سورة الأنبياء قولُ الله تعالى: [ما يأتيهمْ من ذِكْرٍ من ربَّهم مُحْدَثٍ].. إلخ الآية الكريمة.. قُلْ لي.. أفيكونُ "مُحَدثٌ" إلا مخلوقاً يا أحمد..؟
-الإمام أحمد بن حنبل: قال الله تعالى في الآية الأولى من سورة(ص): [ص والقرآنِ ذي الذِّكر] فالذكر هو القرآن، وكلمةُ "ذكر" الواردة في الآية السابقة التي ذكرتها يابنَ أبي دُؤاد ليستْ مُعَرَّفةً "بألفٍ ولام".
-عالمٌ آخر: أليس الله هو القائل: [الله خالق كل شيء]...؟.
-أحمد بن حنبل: قال الله تعالى في الآية الخامسة والعشرين من سورة (الأحقاف): [تُدمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها].. إلخ الآية الكريمة.. فهل دمَّرتْ إلا ما أراد الله..؟
-عالم معتزل ثالث: جاء في حديث ابن مسعود: "ماخلقَ اللهُ من جنةٍ ولا نار... ولا سماءٍ ولا أرض.. أعظم من آية الكرسي".. فما رأيُكَ بهذا الحديث يا أحمد..؟
- ابن حنبل: إنما وقع الخلقُ على الجنة والنار.. والسماء والأرض.. ولم يقع على آية الكرسي.. أي لم يقع على القرآن.. وهي جزء منه كما تعلمون.. ويعلم جميع المُسلمين كافة.
وتُتابِعُ المُناظرة مسارَها على هذا النحو من الجدل والمنطق.. حتى إذا تعب المُتناظرون، طلب الخليفةُ المعتصم إعادة الإمام أحمد إلى السجن، ثم عيَّن علماء آخرين ليُتابعوا مناظرته مساء اليوم التالي بعد صلاة العشاء.
وتنطوي سنواتُ الخليفة المعتصم... ثم سنواتُ الخليفة الواثق.. كما انطوتْ قبلها سنوات الخليفة المأمون، والإمام أحمد بن حنبل ثابتٌ على قوله ومعتقده.. صابرٌ على سجنه وعذابه.. مُحتسبٌ لله في محنته وابتلائه.. إلى أنْ تأتي خلافة المتوكل الذي كان أوَّلُ مافعله بعد تولِّيه أمور الخلافة إصدارَ أمرٍ (يمنع بموجبه إلزام الناس وإجبارهم على القول بخلق القرآن.. الذي كان يُنادي به المعتزلة... ومن سبقه من خلفاء أتَوْا بعد هارون الرشيد).
ويهلُّ هلالُ احترام حرية العقيدة على العالم الإسلامي من جديد.. وتُشرقُ شمسُ الفرج على الإمام أحمد بن حنبل بعد ليلٍ دامسٍ.. مرعبٍ وطويل، فيطلب الخليفةُ المتوكل إحضارَهُ إلى قصر الخلافة ليعتذرَ منه عمَّا ألحقهُ به أسلافه الخلفاء الثلاثة من أذى المأمون والمعتصم والواثق وأوَّلُّهمُ خاصة.
وحين يدخل ابنُ حنبل فناء القصر، ويتقدم من الخليفة المتوكل.. يتقدمُ الخليفةُ منه ليضمَّهُ ويُعانقهُ مُعتذراً بحرارة وحُرْقة عمَّا فات... طالباً الرحمة والمغفرة لأسلافه الخلفاء الثلاثة، ثم يلتفتُ إلى أمه التي كان لها دورٌ كبير في إطلاق سراح ابن حنبل والتي كانتْ تقف بجانبه عند استقباله للإمام أحمد ويقول:
(( والله لقد أضاء القصر ومن فيه بدخول هذا العالم الجليل إليه يا أُماه)). ثم يتابع قائلاً: ((رحم الله أسلافي المأمون والمعتصم والواثق.. وغفر لهم ما ألحقوه من أذىً بهذا الشيخ الفاضل الذي يقطر وجهه نوراً وإيماناً.. والذي لم يكنْ صبره وتمسُّكُهُ بعقيدته أثناء المحن إلا واحدة من خصاله الحميدة الكثيرة التي منَّ الله بها عليه)).
ثم يلتفتُ إلى الإمام أحمد ويقول له: أما أنتَ يابن حنبل.. فَلَكَ أنْ تعود إلى أهلك وذويك محترماً مُعزَّزاً بعد طول غياب... إنكَ على حق يا أحمد.. أجل إنكَ على حق.
ثم يُرسله مع بعض الجند والحرس إلى منزله على حصانٍ مُطَهَّمٍ... وفي موكبٍ مهيب يليقُ به وبأمثاله بعد أن يُجزل له العطاء تعويضاً عن بعض مالحق به من ضرر مادي ومعنوي ..!