بسمـ الله ـالرحمن الرحيمـ
إن اللغة العربية تتعدد علومها وتتنوع، ويحتاج إليها أهل الإسلام حاجة أكيدة، لعلاقة تلك العلوم بفهم كتاب الله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد ، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، ولعلاقتها بفهم نصوص الحديث النبوي الشريف، الذي نطق به أفصح من نطق بالضاد، وأبلغ من قال أنا عربي من العباد.
قال ابن خلدون رحمه الله في المقدمة: الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي، أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة.
وإنما احتجنا إلى هذه المقدمة البسيطة، بين يدي حديثنا عن علوم اللغة العربية، لبيان وثيق الصلة بين العلوم الإسلامية الدينية المحضة وبين العلوم العربية التي تعتبر ـ على حد قول العلماء ـ علوم الآلة والوسيلة، ولندفع وهم من دخله الوهم فظن أنه يستطيع فهم الدين بدون واسطة علوم اللغة، أو يستطيع أن يتفقه في الشريعة دون تضلع من العربية... وكفى بذلك وهماً وضياعا، وصدق من قال:
حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاةِ
فليس يحفظ ديـن إلا بحفــظ اللغـاتِ
قال سيبويه : ( النحو في الكلام كالملح في الطعام ) .وبالمناسبة كلمة سيبوية : كلمة فارسية ومعناها رائحة التفاح
تعريف علم النحو:
ونبدأ بعلم النحو.
ونعرج على تعريفه. فنرى أن صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون) قال: علم النحو، ويسمى علم الإعراب أيضاً على حافي شرح اللب، وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقما، وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو، أو بوقوعها فيه .. والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به.
والحقيقة أن بوادر اللحن قد ظهرت على قلة وندرة أيام رسول الله ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً لحن بحضرة النبي فقال النبي : " أرشدوا أخاكم فقد ضل " .
كما روي عن رسول الله قوله: " أنا من قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن " .
فإذا كان اللحن في التخاطب بين العرب هو الدافع الأول إلى تدوين اللغة وجمعها، واستنباط قواعد النحو وتصنيفها، فإننا نتعرف من خلال الحديثين السابقين وجود كلمة اللحن وتداولها، وإن لم ينقل إلينا ما الخطأ اللغوي الذي قصد بها آنذاك.
لكن المصادر في تاريخ علم النحو تذكر لنا أن عمر رضي الله عنه مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: آنا قوم متعلمين ( والصواب أن يقولوا: متعلمون) فأعرض مغضبا وقال: والله خطؤكم في لسانكم أشدُّ علي من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله يقول: " رحم الله امرءواً أصلح من لسانه " .
إلا أن أشهر القصص في تاريخ النحو ما أورده الأصفهاني في الأغاني، إذ دخل أبو الأسود الدؤلي في وقدة الحر بالبصرة على ابنته، فقالت له: ياأبت ما أشدُّ الحر؟ فرفعت كلمة (أشد) فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر، فقالت: ياأبت إنما أخبرتك ولم أسألك، والحقيقة أنه كان عليها أن تقول إذا أرادت إظهار التعجب من شدة الحر والإخبار عنه ماأشدَّ الحر.
[size=16]أسباب فشو اللحن:
وقد بدأ اللحن يتسرب والفساد يسري إلى لغة كثير من العرب مع اتساع الفتوحات، واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب الفارسية والرومية والأحباش، ومحاولة هؤلاء العجم تعلم مااستطاعوا من العربية، وقليل من يفلح منهم في ذلك. فكان ظهور اللحن وفشوه مدعاةً لأهل الحل والعقد، أن يأمروا بضبط اللغة لضبط الألسن، وبتدوين القواعد واستنباطها لحفظ كتاب الله من اللحن والتحريف في اللفظ ثم في المعنى.
وضع قواعد النحو الأولى:
ويحدثنا ابن خلدون كيف وضعت قواعد علم النحو؟ وكيف فكر العرب في المحافظة على اللغة ونطقها، بعد أن فسدت ملكات النطق السليم لديهم فيقول: فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً، شِبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم.
أوائل النحويين:
وقد اختلف العلماء فيمن تكلم أولاً بعلم النحو من حيث هوعلم، وفيمن وضع له بعض قواعده.
ولعل أول من أرسل فيه كلاماً أبو الأسود الدؤلي، الذي اخترع الحركات المعروفة بالفتحة والضمة والكسرة عندما اختار كاتباً، وأمره أن يأخذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعتُ شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين.
وقيل: إن علياً رضي الله عنه وجه أبا الأسود إلى ذلك وقال له: انحُ نحوَ هذا... فمن هذا أخذ اسم النحو.
يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): أخذ عن أبي الأسود يحيى بن يَعْمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ومضر بن عاصمٍ وعطاء بن أبي الأسود وأبو نوفل بن أبي عقرب، وعن هؤلاء أخذ علماء البصرة طبقة بعد طبقة، ثم نشأ بعد نحو مائة عام من تلاميذهم من ذهب إلى الكوفة فعلم بها، فكان منه ومن تلاميذه مايسمى بمدرسة الكوفة.
وقد كان للخليل بن أحمد الفراهيدي فضل كبير في هذا المجال، وهو ـ لاننسى ـ أستاذ شيخ النحو سيبويه، أخذ عنه، وكمل من بعده تفاريع النحو، وأكثر من أدلته وشواهد قواعده، ووضع فيه كتابه المشهور.
ثم وضع أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة في النحو، حَذَوَا حَذْوَ سيبويه.
من مسائل النحو وقضاياه:
وإذا أردنا أن نطلع على جملة واسعة من علم النحو فلنتصفح كتاباً مرجعاً فيه هو (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) على سبيل المثال نجد أن مؤلفه ابن هشام الأنصاري قد جعله على قسمين:
أدار القسم الأول على الأدوات في اللغة العربية، فحصرها وبين العامل منها وغير العامل ، وأكثر من الشواهد ونسق معانيها المختلفة، وأحكامها تبعا لهذه المعاني
وكان معظم اعتماده في استنباط معاني الحروف وأحكامها على القرآن الكريم، فهو المنبع الصافي من كل شائبة، والمرجع البعيد عن كل دخيل.
أما في القسم الثاني فكان فيه ثمانية أبواب، الأول في تفسير المفردات، وتشمل الحروف والأفعال والأسماء وأحكامها، والثاني: في الجملة وأقسامها، والثالث: في شبه الجملة وأحكامها، والرابع: في ذكر أحكامٍ يكثر دورها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس: في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصوابُ خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها مالاينحصر من الصور الجزئية.
ويعلق على ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني بقوله: ألف الكتاب ـ أي ابن هشام ـ لطبقة حظيت من العلم بقسط وافر في ثقافتها العامة .... وهو مستوى يعلو كثيراً على المستوى الميسر لطبقة المثقفين اليوم ثقافة رسمية ( بدرجة الدكتوراه مثلاً).
أشهر كتب النحو:
وكتب علم النحو كثيرة جداً متنوعة متعددة، وبعضها ـ وهو الأكثر ـ نثر، وبعضها الآخر شعر.
ومن تلك الكتب: (الكتاب) لسيبويه، و(التصريف الملوكي) و(المنصف) وهما لابن جني، و(المفصل) للزمخشري و(الإنصاف في مسائل الخلاف) و(لمع الأدلة) وهما لكمال الدين الأنباري، و(ألفية ابن مالك) وشرحها و(كتابه شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح)، و(شرح شذور الذهب) لابن هشام.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لايستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها، إلتذاذاً لما أسمع من كلامه
نعرف أن المفعولات هذه بمعنى أنها منصوبة، إذا تتبعها عرف طالب العلم عندما يقرأ أو يكتب أو ينطق يستلزم أو يستحضر حكمها، أن حكمها النصب. على أي شيء نصبت؟ . أما إذا لم يكن عند بدء القراءة مستحضرا لموقع تلك الكلمات فإنه يقع في اللحن ويقع في الخطأ. فلذلك يقولون: إن من فائدة علم النحو هو السلامة من اللحن ومن الأخطاء اللغوية في كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم. وفيه أيضا فائدة وهي فهم المعاني؛ فإن الكثير من المعاني لا تفهم إلا إذا عرف وضعها، وعرف موضعها من الإعراب، وعرف كيفية النطق بها. وكذلك أيضا من فوائد معرفتها - يعني الإعراب كله - أن يعرف كيف الإملاء وكتابة الكلمات حتى لا يقع في خطأ إملائي أو نحوه.
وبكل حال.. معرفة هذا النوع الذي هو علم النحو تتوقف عليها أشياء كثيرة: فهم كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم، والسلامة من اللحن ومن الغلط، والسلامة من الخطأ في الكتابة وما أشبهها . كثير من الناس يكونون قد قرءوا هذه الأبواب كلها؛ ومع ذلك يشاهد عليهم أخطاء، ويوجد معهم لحن في القرآن وفي الأحاديث وفي قراءة الكتب. وإذا سألتهم أو ناقشتهم وجدت أنهم يعرفون الأبواب، ولكن ينقصهم التمرن على النطق بهذه الكلمات.
فإذن يتأكد فيمن عرف مثلا هذه الأبواب كلها؛ منصوبات الأسماء ومرفوعات الأسماء والأفعال وما أشبهها؛ يتأكد في حقه أن يقرأ، ثم يتفقد الكلمات التي يقرؤها كيف ينطق بها. أو يقرؤها على طلبة العلم الذين لهم معرفة بكيفية النطق، ثم يستمع إلى إجاباتهم إلى جوابهم أو إلى تقويمهم له، أو يكلفهم ويقول: أريد أن ترشدوني إلى الأخطاء والأغلاط التي أقع فيها؛ حتى أنتبه لها في المرة الثانية أو ما بعدها. فإذا أرشدوه وقالوا: أخطأت في هذه الكلمة محلها الرفع وأنت نصبت أو خفضت، انتبه لها بعد ذلك أو لما يشبهها.
لا شك في أفضلية هذا العلم الذي هو معرفة النحو وما يترتب عليه. ولذلك كانوا يحثون على البداءة به قبل القراءة في الكتب المطولة أو المختصرة؛ ليكون الإنسان على بصيرة ومعرفة بما يقرؤه أو بما يمر عليه. وكذلك ينهون أيضا عن التوغل فيه؛ لأن هناك من توسعوا في علم النحو وأفنوا فيه أعمارهم وجعلوه أكبر ما يبحثون فيه وصار هو شغلهم.
ذكروا أن كل إنسان يكون مهتما بما تخصص فيه في جميع مجالاته وكلماته ونحوها، ويظهر ذلك في علومه الأخرى. فقالوا مثلا: إن من النحاة المشهورين أبا حيان الذي كان في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية له كتاب البحر المحيط في التفسير، شحنه بالإعراب وبالخلاف في الكلمات، كلما أتى على كلمة ذكر وجوه إعرابها، وما قيل فيها من الخلافات، وما أشبهها، فأصبح التفسير كأنه نحو؛ البحر، ومثله مختصر له يسمى: النهر، فيدل على أن الذين اشتغلوا به، وأكثروا منه فاتهم خير كثير.
فلذلك يقولون: النحو في الكلام كالملح في الطعام، أي تعلمه يقتصر منه على ما يقيم اللسان، دون التوسع فيه، فإن الملح إذا أُكْثِرَ منه أفسد الطعام، وإذا قُلِّلَ منه فسد الطعام، بل يكون بمقدار. فكذلك النحو: من لم يقرأ منه شيئا فاته علم المعاني، وكيفية النطق بالكلمات، ومن توغل فيه فاته علم كثير من علوم الشريعة، وخير الأمور أوساطها.
فإن عبارة: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) شاعت في كتب العلماء بمعنيين متناقضين، فيوردها البعض مادحاً النحو، وينقلها البعض الآخر ذماً له !
فأثارني ذلك إلى جمع تلك النقول في محل واحد .. وسيتبين للقارئ حقيقة القضية .
- الاتجاه الأول: ينبغي الإقلال من هذا العلم، لأنك بالاستكثار منه تفسد المعلوم ! كالملح يفسد الطباخ به الطبيخ اذا كثر.. فأصحاب هذا التفسير ضد التوسع في دراسة العربية.
ففي نثر الدر:
(قيلَ: النحو مِلْحُ العلم، ومتى اسْتكْثر مِن الملح في الطَّعام فَسدَ.)
- وفي محاضرات الأدباء للأصفهاني:
(ذكر النحو عند المأمون فقال: علم يغنيك أدناه عن أقصاه. وقال أبو حنيفة: المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر. وقيل: النحو ملح العلم، ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد.)
- وقال ابن رجب في فضل علم السلف على الخلف:
(وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً.
وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال أوله شغل وآخره بغي.
وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال هو يشغل عما هو أهم منه.
ولهذا يقال أن "العربية في الكلام كالملح في الطعام" يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده).
وعلى التوجيه المعاكس:-
الاتجاه الثاني: أن وجه الشبه بين النحو والملح هو أنَّ كلاً منها مصلحٌ لما يوضع فيه؛ فكما ان الملح يصلح الطعام فكذلك النحو مع الكلام.
وفي هذا التوجيه حثٌّ على تعلم العربية ودراستها.
في مفتاح العلوم للسكاكي:
(واعلم أن حق وجه التشبيه شموله الطرفين فإذا صادفه صح وإلا فسد كما إذا جعلت وجه التشبيه في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام الصلاح باستعمالهما، والفساد بإهمالهما صح لشمول هذا المعنى المشبه والمشبه به.
فالملح إن استعمل في الطعام صلح الطعام وإلا فسد والنحو كذلك إذا استعمل في الكلام نحو عرف زيد عمراً برفع الفاعل ونصب المفعول صلح الكلام وصار منتفعا به في تفهم المراد منه.
وإذا لم يستعمل فيه فلم يرفع الفاعل ولم ينصب المفعول فسد لخروجه عن الانتفاع به وإذا جعلت وجه التشبيه ما قد يذهب إليه ذوو التعنت من أن الكثير من الملح يفسد الطعام والقليل يصلحه فالنحو كذلك فسد لخروجه إذ ذاك عن شمول الطرفين على الاختصاص بالمشبه به، فإن التقليل أو التكثير إنما يتصور في الملح بأن يجعل القدر المصلح منه للطعام مضاعفاً مثلا، أما في النحو فلا لامتناع جعل رفع الفاعل أو نصب المفعول مضاعفاً هذا وربما أمكن تصحيح قول المتعنتين ولكنه ليس مما يهمنا الآن.)
وفي الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني:
وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان علم فساد جعله في قول القائل: النحو في الكلام كالملح في الطعام، كون القليل مصلحاً والكثير مفسداً لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلاً، فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه وانتفى الفساد عنه وصار منتفعاً به في فهم المراد منه وإلا لم يحصل، وكان فاسداً لا ينتفع به فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحاً والإهمال مفسداً لاشتراكهما في ذلك.
ومما يتصل بهذا ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وقال له هل سمعت هذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: سمعته وأخذته أنت وأفسدته، أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو إمة وهو طائع
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذا العر يكوي غيره وهو راتع
وأما الإفساد فن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه فلا يكون المعاقب غير الجاني وهذا بخلاف بيت النابغة فإن المكوى من الإبل يألم وما به عر البتة وصاحب العر لا يألم جملة.)
وفي فيض القدير للمناوي:
(قال الطيبي : هذا على التشبيه نحو قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام في إصلاحه باستعماله والفساد بإهماله لا في القلة والكثرة.)
وفي الافتتاح في شرح المصباح للأسود:
(وشبه النحو بالملح حيث قال: (كالملح في الطعام)، ووجه التشبيه بين الملح والنحو: أنَّ استعمال النحو في الكلام مصلحٌ له، وترك استعماله فيه مفسد له.
كما أنَّ استعمال الملح في الطعام مصلح له، وترك استعماله فيه مفسد، فيكون هذا الوجه شاملاً لطرفي المشبه بع والمشبه، ومن حق وجه التشبيه كونه شاملاً لهما.
ومن هذا عُلم فساد قول من قال: "ان وجه التشبيه بينهما هو أن القليل من هذا العلم مصلح له، كما أن القليل من الملح مصلح له لا الكثير منه"؛ لأن هذا الوجه مختص بالمشبه به وهو الملح دون المشبه وهو النحو.)
وفي التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:
(ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام .)
إن اللغة العربية تتعدد علومها وتتنوع، ويحتاج إليها أهل الإسلام حاجة أكيدة، لعلاقة تلك العلوم بفهم كتاب الله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد ، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، ولعلاقتها بفهم نصوص الحديث النبوي الشريف، الذي نطق به أفصح من نطق بالضاد، وأبلغ من قال أنا عربي من العباد.
قال ابن خلدون رحمه الله في المقدمة: الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي، أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة.
وإنما احتجنا إلى هذه المقدمة البسيطة، بين يدي حديثنا عن علوم اللغة العربية، لبيان وثيق الصلة بين العلوم الإسلامية الدينية المحضة وبين العلوم العربية التي تعتبر ـ على حد قول العلماء ـ علوم الآلة والوسيلة، ولندفع وهم من دخله الوهم فظن أنه يستطيع فهم الدين بدون واسطة علوم اللغة، أو يستطيع أن يتفقه في الشريعة دون تضلع من العربية... وكفى بذلك وهماً وضياعا، وصدق من قال:
حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاةِ
فليس يحفظ ديـن إلا بحفــظ اللغـاتِ
قال سيبويه : ( النحو في الكلام كالملح في الطعام ) .وبالمناسبة كلمة سيبوية : كلمة فارسية ومعناها رائحة التفاح
تعريف علم النحو:
ونبدأ بعلم النحو.
ونعرج على تعريفه. فنرى أن صاحب (كشاف اصطلاحات الفنون) قال: علم النحو، ويسمى علم الإعراب أيضاً على حافي شرح اللب، وهو علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقما، وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه من حيث هو، أو بوقوعها فيه .. والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في التأليف والاقتدار على فهمه والإفهام به.
والحقيقة أن بوادر اللحن قد ظهرت على قلة وندرة أيام رسول الله ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً لحن بحضرة النبي فقال النبي : " أرشدوا أخاكم فقد ضل " .
كما روي عن رسول الله قوله: " أنا من قريش، ونشأت في بني سعد، فأنى لي اللحن " .
فإذا كان اللحن في التخاطب بين العرب هو الدافع الأول إلى تدوين اللغة وجمعها، واستنباط قواعد النحو وتصنيفها، فإننا نتعرف من خلال الحديثين السابقين وجود كلمة اللحن وتداولها، وإن لم ينقل إلينا ما الخطأ اللغوي الذي قصد بها آنذاك.
لكن المصادر في تاريخ علم النحو تذكر لنا أن عمر رضي الله عنه مر على قوم يسيئون الرمي فقرعهم فقالوا: آنا قوم متعلمين ( والصواب أن يقولوا: متعلمون) فأعرض مغضبا وقال: والله خطؤكم في لسانكم أشدُّ علي من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله يقول: " رحم الله امرءواً أصلح من لسانه " .
إلا أن أشهر القصص في تاريخ النحو ما أورده الأصفهاني في الأغاني، إذ دخل أبو الأسود الدؤلي في وقدة الحر بالبصرة على ابنته، فقالت له: ياأبت ما أشدُّ الحر؟ فرفعت كلمة (أشد) فظنها تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر، فقالت: ياأبت إنما أخبرتك ولم أسألك، والحقيقة أنه كان عليها أن تقول إذا أرادت إظهار التعجب من شدة الحر والإخبار عنه ماأشدَّ الحر.
[size=16]أسباب فشو اللحن:
وقد بدأ اللحن يتسرب والفساد يسري إلى لغة كثير من العرب مع اتساع الفتوحات، واختلاط العرب الفاتحين بالشعوب الفارسية والرومية والأحباش، ومحاولة هؤلاء العجم تعلم مااستطاعوا من العربية، وقليل من يفلح منهم في ذلك. فكان ظهور اللحن وفشوه مدعاةً لأهل الحل والعقد، أن يأمروا بضبط اللغة لضبط الألسن، وبتدوين القواعد واستنباطها لحفظ كتاب الله من اللحن والتحريف في اللفظ ثم في المعنى.
وضع قواعد النحو الأولى:
ويحدثنا ابن خلدون كيف وضعت قواعد علم النحو؟ وكيف فكر العرب في المحافظة على اللغة ونطقها، بعد أن فسدت ملكات النطق السليم لديهم فيقول: فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردةً، شِبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه بالأشباه، مثل أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع، ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً، وأمثال ذلك، وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم.
أوائل النحويين:
وقد اختلف العلماء فيمن تكلم أولاً بعلم النحو من حيث هوعلم، وفيمن وضع له بعض قواعده.
ولعل أول من أرسل فيه كلاماً أبو الأسود الدؤلي، الذي اخترع الحركات المعروفة بالفتحة والضمة والكسرة عندما اختار كاتباً، وأمره أن يأخذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، وقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعتُ شيئاً من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين.
وقيل: إن علياً رضي الله عنه وجه أبا الأسود إلى ذلك وقال له: انحُ نحوَ هذا... فمن هذا أخذ اسم النحو.
يقول الأستاذ سعيد الأفغاني في كتابه (من تاريخ النحو): أخذ عن أبي الأسود يحيى بن يَعْمر وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ومضر بن عاصمٍ وعطاء بن أبي الأسود وأبو نوفل بن أبي عقرب، وعن هؤلاء أخذ علماء البصرة طبقة بعد طبقة، ثم نشأ بعد نحو مائة عام من تلاميذهم من ذهب إلى الكوفة فعلم بها، فكان منه ومن تلاميذه مايسمى بمدرسة الكوفة.
وقد كان للخليل بن أحمد الفراهيدي فضل كبير في هذا المجال، وهو ـ لاننسى ـ أستاذ شيخ النحو سيبويه، أخذ عنه، وكمل من بعده تفاريع النحو، وأكثر من أدلته وشواهد قواعده، ووضع فيه كتابه المشهور.
ثم وضع أبو علي الفارسي، وأبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة في النحو، حَذَوَا حَذْوَ سيبويه.
من مسائل النحو وقضاياه:
وإذا أردنا أن نطلع على جملة واسعة من علم النحو فلنتصفح كتاباً مرجعاً فيه هو (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) على سبيل المثال نجد أن مؤلفه ابن هشام الأنصاري قد جعله على قسمين:
أدار القسم الأول على الأدوات في اللغة العربية، فحصرها وبين العامل منها وغير العامل ، وأكثر من الشواهد ونسق معانيها المختلفة، وأحكامها تبعا لهذه المعاني
وكان معظم اعتماده في استنباط معاني الحروف وأحكامها على القرآن الكريم، فهو المنبع الصافي من كل شائبة، والمرجع البعيد عن كل دخيل.
أما في القسم الثاني فكان فيه ثمانية أبواب، الأول في تفسير المفردات، وتشمل الحروف والأفعال والأسماء وأحكامها، والثاني: في الجملة وأقسامها، والثالث: في شبه الجملة وأحكامها، والرابع: في ذكر أحكامٍ يكثر دورها، والخامس: في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، والسادس: في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصوابُ خلافها، والسابع: في كيفية الإعراب، والثامن: في ذكر أمور كلية يتخرج عليها مالاينحصر من الصور الجزئية.
ويعلق على ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني بقوله: ألف الكتاب ـ أي ابن هشام ـ لطبقة حظيت من العلم بقسط وافر في ثقافتها العامة .... وهو مستوى يعلو كثيراً على المستوى الميسر لطبقة المثقفين اليوم ثقافة رسمية ( بدرجة الدكتوراه مثلاً).
أشهر كتب النحو:
وكتب علم النحو كثيرة جداً متنوعة متعددة، وبعضها ـ وهو الأكثر ـ نثر، وبعضها الآخر شعر.
ومن تلك الكتب: (الكتاب) لسيبويه، و(التصريف الملوكي) و(المنصف) وهما لابن جني، و(المفصل) للزمخشري و(الإنصاف في مسائل الخلاف) و(لمع الأدلة) وهما لكمال الدين الأنباري، و(ألفية ابن مالك) وشرحها و(كتابه شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح)، و(شرح شذور الذهب) لابن هشام.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حب الرمان الحامض لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لايستوجبها، فيعرب فأجيبه إليها، إلتذاذاً لما أسمع من كلامه
نعرف أن المفعولات هذه بمعنى أنها منصوبة، إذا تتبعها عرف طالب العلم عندما يقرأ أو يكتب أو ينطق يستلزم أو يستحضر حكمها، أن حكمها النصب. على أي شيء نصبت؟ . أما إذا لم يكن عند بدء القراءة مستحضرا لموقع تلك الكلمات فإنه يقع في اللحن ويقع في الخطأ. فلذلك يقولون: إن من فائدة علم النحو هو السلامة من اللحن ومن الأخطاء اللغوية في كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم. وفيه أيضا فائدة وهي فهم المعاني؛ فإن الكثير من المعاني لا تفهم إلا إذا عرف وضعها، وعرف موضعها من الإعراب، وعرف كيفية النطق بها. وكذلك أيضا من فوائد معرفتها - يعني الإعراب كله - أن يعرف كيف الإملاء وكتابة الكلمات حتى لا يقع في خطأ إملائي أو نحوه.
وبكل حال.. معرفة هذا النوع الذي هو علم النحو تتوقف عليها أشياء كثيرة: فهم كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم، والسلامة من اللحن ومن الغلط، والسلامة من الخطأ في الكتابة وما أشبهها . كثير من الناس يكونون قد قرءوا هذه الأبواب كلها؛ ومع ذلك يشاهد عليهم أخطاء، ويوجد معهم لحن في القرآن وفي الأحاديث وفي قراءة الكتب. وإذا سألتهم أو ناقشتهم وجدت أنهم يعرفون الأبواب، ولكن ينقصهم التمرن على النطق بهذه الكلمات.
فإذن يتأكد فيمن عرف مثلا هذه الأبواب كلها؛ منصوبات الأسماء ومرفوعات الأسماء والأفعال وما أشبهها؛ يتأكد في حقه أن يقرأ، ثم يتفقد الكلمات التي يقرؤها كيف ينطق بها. أو يقرؤها على طلبة العلم الذين لهم معرفة بكيفية النطق، ثم يستمع إلى إجاباتهم إلى جوابهم أو إلى تقويمهم له، أو يكلفهم ويقول: أريد أن ترشدوني إلى الأخطاء والأغلاط التي أقع فيها؛ حتى أنتبه لها في المرة الثانية أو ما بعدها. فإذا أرشدوه وقالوا: أخطأت في هذه الكلمة محلها الرفع وأنت نصبت أو خفضت، انتبه لها بعد ذلك أو لما يشبهها.
لا شك في أفضلية هذا العلم الذي هو معرفة النحو وما يترتب عليه. ولذلك كانوا يحثون على البداءة به قبل القراءة في الكتب المطولة أو المختصرة؛ ليكون الإنسان على بصيرة ومعرفة بما يقرؤه أو بما يمر عليه. وكذلك ينهون أيضا عن التوغل فيه؛ لأن هناك من توسعوا في علم النحو وأفنوا فيه أعمارهم وجعلوه أكبر ما يبحثون فيه وصار هو شغلهم.
ذكروا أن كل إنسان يكون مهتما بما تخصص فيه في جميع مجالاته وكلماته ونحوها، ويظهر ذلك في علومه الأخرى. فقالوا مثلا: إن من النحاة المشهورين أبا حيان الذي كان في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية له كتاب البحر المحيط في التفسير، شحنه بالإعراب وبالخلاف في الكلمات، كلما أتى على كلمة ذكر وجوه إعرابها، وما قيل فيها من الخلافات، وما أشبهها، فأصبح التفسير كأنه نحو؛ البحر، ومثله مختصر له يسمى: النهر، فيدل على أن الذين اشتغلوا به، وأكثروا منه فاتهم خير كثير.
فلذلك يقولون: النحو في الكلام كالملح في الطعام، أي تعلمه يقتصر منه على ما يقيم اللسان، دون التوسع فيه، فإن الملح إذا أُكْثِرَ منه أفسد الطعام، وإذا قُلِّلَ منه فسد الطعام، بل يكون بمقدار. فكذلك النحو: من لم يقرأ منه شيئا فاته علم المعاني، وكيفية النطق بالكلمات، ومن توغل فيه فاته علم كثير من علوم الشريعة، وخير الأمور أوساطها.
فإن عبارة: (النحو في الكلام كالملح في الطعام) شاعت في كتب العلماء بمعنيين متناقضين، فيوردها البعض مادحاً النحو، وينقلها البعض الآخر ذماً له !
فأثارني ذلك إلى جمع تلك النقول في محل واحد .. وسيتبين للقارئ حقيقة القضية .
- الاتجاه الأول: ينبغي الإقلال من هذا العلم، لأنك بالاستكثار منه تفسد المعلوم ! كالملح يفسد الطباخ به الطبيخ اذا كثر.. فأصحاب هذا التفسير ضد التوسع في دراسة العربية.
ففي نثر الدر:
(قيلَ: النحو مِلْحُ العلم، ومتى اسْتكْثر مِن الملح في الطَّعام فَسدَ.)
- وفي محاضرات الأدباء للأصفهاني:
(ذكر النحو عند المأمون فقال: علم يغنيك أدناه عن أقصاه. وقال أبو حنيفة: المكثر من النحو كالمكثر من غرس شجر لا يثمر. وقيل: النحو ملح العلم، ومتى استكثر من الملح في الطعام فسد.)
- وقال ابن رجب في فضل علم السلف على الخلف:
(وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم والوقوف معه يحرم علماً نافعاً.
وقد كره القاسم بن مخيمرة علم النحو وقال أوله شغل وآخره بغي.
وأراد به التوسع فيه ولذلك كره أحمد التوسع في معرفة اللغة وغريبها وأنكر على أبي عبيدة توسعه في ذلك وقال هو يشغل عما هو أهم منه.
ولهذا يقال أن "العربية في الكلام كالملح في الطعام" يعني أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام وما زاد على ذلك فإنه يفسده).
وعلى التوجيه المعاكس:-
الاتجاه الثاني: أن وجه الشبه بين النحو والملح هو أنَّ كلاً منها مصلحٌ لما يوضع فيه؛ فكما ان الملح يصلح الطعام فكذلك النحو مع الكلام.
وفي هذا التوجيه حثٌّ على تعلم العربية ودراستها.
في مفتاح العلوم للسكاكي:
(واعلم أن حق وجه التشبيه شموله الطرفين فإذا صادفه صح وإلا فسد كما إذا جعلت وجه التشبيه في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام الصلاح باستعمالهما، والفساد بإهمالهما صح لشمول هذا المعنى المشبه والمشبه به.
فالملح إن استعمل في الطعام صلح الطعام وإلا فسد والنحو كذلك إذا استعمل في الكلام نحو عرف زيد عمراً برفع الفاعل ونصب المفعول صلح الكلام وصار منتفعا به في تفهم المراد منه.
وإذا لم يستعمل فيه فلم يرفع الفاعل ولم ينصب المفعول فسد لخروجه عن الانتفاع به وإذا جعلت وجه التشبيه ما قد يذهب إليه ذوو التعنت من أن الكثير من الملح يفسد الطعام والقليل يصلحه فالنحو كذلك فسد لخروجه إذ ذاك عن شمول الطرفين على الاختصاص بالمشبه به، فإن التقليل أو التكثير إنما يتصور في الملح بأن يجعل القدر المصلح منه للطعام مضاعفاً مثلا، أما في النحو فلا لامتناع جعل رفع الفاعل أو نصب المفعول مضاعفاً هذا وربما أمكن تصحيح قول المتعنتين ولكنه ليس مما يهمنا الآن.)
وفي الإيضاح في علوم البلاغة للقزويني:
وإذا علم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان علم فساد جعله في قول القائل: النحو في الكلام كالملح في الطعام، كون القليل مصلحاً والكثير مفسداً لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلاً، فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه وانتفى الفساد عنه وصار منتفعاً به في فهم المراد منه وإلا لم يحصل، وكان فاسداً لا ينتفع به فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحاً والإهمال مفسداً لاشتراكهما في ذلك.
ومما يتصل بهذا ما حكي أن ابن شرف القيرواني أنشد ابن رشيق قوله:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وقال له هل سمعت هذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: سمعته وأخذته أنت وأفسدته، أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو إمة وهو طائع
لكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذا العر يكوي غيره وهو راتع
وأما الإفساد فن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه فلا يكون المعاقب غير الجاني وهذا بخلاف بيت النابغة فإن المكوى من الإبل يألم وما به عر البتة وصاحب العر لا يألم جملة.)
وفي فيض القدير للمناوي:
(قال الطيبي : هذا على التشبيه نحو قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام في إصلاحه باستعماله والفساد بإهماله لا في القلة والكثرة.)
وفي الافتتاح في شرح المصباح للأسود:
(وشبه النحو بالملح حيث قال: (كالملح في الطعام)، ووجه التشبيه بين الملح والنحو: أنَّ استعمال النحو في الكلام مصلحٌ له، وترك استعماله فيه مفسد له.
كما أنَّ استعمال الملح في الطعام مصلح له، وترك استعماله فيه مفسد، فيكون هذا الوجه شاملاً لطرفي المشبه بع والمشبه، ومن حق وجه التشبيه كونه شاملاً لهما.
ومن هذا عُلم فساد قول من قال: "ان وجه التشبيه بينهما هو أن القليل من هذا العلم مصلح له، كما أن القليل من الملح مصلح له لا الكثير منه"؛ لأن هذا الوجه مختص بالمشبه به وهو الملح دون المشبه وهو النحو.)
وفي التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور:
(ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : «النحو في الكلام كالملح في الطعام» فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام .)